فصل: سورة الأنبياء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ‏}‏ أي لموسى واللام لتضمن الفعل معنى الاتباع‏.‏ وقرأ قنبل وحفص ‏{‏آمنتم له‏}‏ على الخبر والباقون على الاستفهام‏.‏ ‏{‏قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ‏}‏ في الإِيمان له‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ‏}‏ لعظيمكم في فنكم وأعلمكم به أو لأستاذكم‏.‏ ‏{‏الذى عَلَّمَكُمُ السحر‏}‏ وأنتم تواطأتم على ما فعلتم‏.‏ ‏{‏فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ‏}‏ اليد اليمنى والرجل اليسرى، ومن ابتدائية كأن القطع ابتدأ من مخالفة العضو العضو وهي مع المجرور بها في حيز النصب على الحال، أي لأقطعنها مختلفات وقرئ «لأقطعن» «ولأصلبن» بالتخفيف‏.‏ ‏{‏وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النخل‏}‏ شبه تمكن المصلوب بالجذع بتمكن المظروف بالظرف وهو أول من صلب‏.‏ ‏{‏وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا‏}‏ يريد نفسه وموسى لقوله ‏{‏آمنتم له‏}‏ واللام مع الإِيمان في كتاب الله لغير الله أراد به توضيع موسى والهزء به، فإنه لم يكن من التعذيب في شيء‏.‏ وقيل رب موسى الذي آمنوا به‏.‏ ‏{‏أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى‏}‏ وأدوم عقاباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ‏}‏ لن نختارك‏.‏ ‏{‏على مَا جَاءَنَا‏}‏ موسى به، ويجوز أن يكون الضمير فيه لما‏.‏ ‏{‏مِنَ البينات‏}‏ المعجزات الواضحات‏.‏ ‏{‏والذى فَطَرَنَا‏}‏ عطف على ما جاءنا أو قسم‏.‏ ‏{‏فاقض مَا أَنتَ قَاضٍ‏}‏ ما أنت قاضيه أي صانعه أو حاكم به‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا تَقْضِى هذه الحياة الدنيا‏}‏ إنما تصنع ما تهواه، أو تحكم ما تراه في هذه الدنيا ‏{‏والأخرة خَيْرٌ وأبقى‏}‏ فهو كالتعليل لما قبله والتمهيد لما بعده‏.‏ وقرئ ‏{‏تقضي هذه الحياة الدنيا‏}‏ كقولك‏:‏ صيم يوم الجمعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّآ ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خطايانا‏}‏ من الكفر والمعاصي‏.‏ ‏{‏وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر‏}‏ من معارضة المعجزة‏.‏ روي أنهم قالوا لفرعون أرنا موسى نائماً فوجدوه تحرسه العصا فقالوا ما هذا بسحر فإن الساحر إذا نام بطل سحره فأبى إلا أن يعارضوه‏.‏ ‏{‏والله خَيْرٌ وأبقى‏}‏ جزاء أو خير ثواباً وأبقى عقاباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّهُ‏}‏ إن الأمر‏.‏ ‏{‏مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً‏}‏ بأن يموت على كفره وعصيانه‏.‏ ‏{‏فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا‏}‏ فيستريح‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَحْيَا‏}‏ حياة مهنأة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات‏}‏ في الدنيا‏.‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدرجات العلى‏}‏ المنازل الرفيعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ بدل من الدرجات‏.‏ ‏{‏تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا‏}‏ حال والعامل فيها معنى الإِشارة أو الاستقرار‏.‏ ‏{‏وذلك جَزَاءُ مَن تزكى‏}‏ تطهر من أدناس الكفار والمعاصي، والآيات الثلاث يحتمل أن تكون من كلام السحرة وأن تكون ابتداء كلام من الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي‏}‏ أي من مصر‏.‏ ‏{‏فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً‏}‏ فاجعل لهم، من قولهم ضرب له في ماله سهماً أو فاتخذ من ضرب اللبن إذا عمله‏.‏ ‏{‏فِى البحر يَبَساً‏}‏ يابساً مصدر وصف به يقال يبس يبساً ويبساً كسقم سقماً وسقماً، ولذلك وصف به المؤنث فقيل شاة يبس للتي جف لبنها، وقرئ ‏{‏يبْسا‏}‏ وهو إما مخفف منه أو وصف على فعل كصعب أو جمع يابس كصحب وصف به الواحد مبالغة كقوله‏:‏

كَأَنَّ قُتُودَ رَحْلِي حِينَ ضَمَّت *** حَوَالِبَ غُرزاً وَمَعِيَ جِيَاعاً

أو لتعدده معنى فإنه جعل لكل سبط منهم طريقاً‏.‏ ‏{‏لاَّ تَخَافُ دَرَكاً‏}‏ حال من المأمور أي آمنا من أن يدرككم العدو، أو صفة ثانية والعائد محذوف، وقرأ حمزة «لا تخف» على أنه جواب الأمر‏.‏ ‏{‏وَلاَ تخشى‏}‏ استئناف أي وأنت لا تخشى، أو عطف عليه والألف فيه للإِطلاق كقوله ‏{‏وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا‏}‏ أو حال بالواو والمعنى ولا تخشى الغرق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ‏}‏ وذلك أن موسى عليه السلام خرج بهم أول الليل فَأُخْبِرَ فرعون بذلك فقص أثرهم، والمعنى فأتبعهم فرعون نفسه ومعه جنوده فحذف المفعول الثاني‏.‏ وقيل ‏{‏فَأَتْبَعَهُمْ‏}‏ بمعنى فأتبعهم ويؤيده القراءة به والباء للتعدية وقيل الباء مزيدة والمعنى‏:‏ فاتبعهم جنوده وذادهم خلفهم‏.‏ ‏{‏فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ‏}‏ الضمير لجنوده أوله ولهم، وفيه مبالغة ووجازة أي‏:‏ غشيهم ما سمعت قصته ولا يعرف كنهه إلا الله‏.‏ وقرئ «فغشاهم ما غشاهم» أي غطاهم ما غطاهم والفاعل هو الله تعالى أو ما غشاهم أو فرعون لأنه الذي ورطهم للهلاك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى‏}‏ أي أضلهم في الدين وما هداهم وهو تهكم به في قوله ‏{‏وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد‏}‏ أو أضلهم في البحر وما نجا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 97‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ‏(‏80‏)‏ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ‏(‏81‏)‏ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ‏(‏82‏)‏ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى ‏(‏83‏)‏ قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ‏(‏84‏)‏ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ‏(‏85‏)‏ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ‏(‏86‏)‏ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ‏(‏87‏)‏ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ‏(‏88‏)‏ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ‏(‏89‏)‏ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ‏(‏90‏)‏ قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ‏(‏91‏)‏ قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ‏(‏92‏)‏ أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ‏(‏93‏)‏ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ‏(‏94‏)‏ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ‏(‏95‏)‏ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ‏(‏96‏)‏ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ‏(‏97‏)‏‏}‏

‏{‏يَا بَنِى إسراءيل‏}‏ خطاب لهم بعد إنجائهم من البحر وإهلاك فرعون على إضمار قلنا، أو للذين منهم في عهد النبي عليه الصلاة والسلام بما فعل بآبائهم‏.‏ ‏{‏قَدْ أنجيناكم مِّنْ عَدُوِّكُمْ‏}‏ فرعون وقومه‏.‏ ‏{‏وواعدناكم جَانِبَ الطور الأيمن‏}‏ بمناجاة موسى وإنزال التوراة، وإنما عد المواعدة إليهم وهي لموسى أو له وللسبعين المختارين للملابسة‏.‏ ‏{‏وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى‏}‏ يعني في التيه‏.‏

‏{‏كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم‏}‏ لذائذه أو حلالاته، وقرأ حمزة والكسائي «أنجيتكم» «وواعدتكم» و«ما رزقتكم» على التاء‏.‏ وقرئ «ووعدتكم» «ووعدناكم»، والأيمن بالجر على الجوار مثل‏:‏ حجر ضب خرب‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ‏}‏ فيما رزقناكم بالإِخلال بشكره والتعدي لما حد الله لكم فيه كالسرف والبطر والمنع عن المستحق‏.‏ ‏{‏فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى‏}‏ فيلزمكم عذابي ويجب لكم من حل الدين إذا وجب أداؤه‏.‏ ‏{‏وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هوى‏}‏ فقد تردى وهلك‏.‏ وقيل وقع في الهاوية، وقرأ الكسائي «يحل» و‏{‏يُحْلِلْ‏}‏ بالضم من حل يحل إذا نزل‏.‏

‏{‏وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ‏}‏ عن الشرك‏.‏ ‏{‏وَآمَنَ‏}‏ بما يجب الإِيمان به‏.‏ ‏{‏وَعَمِلَ صالحا ثُمَّ اهتدى‏}‏ ثم استقام على الهدى المذكور‏.‏

‏{‏وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى‏}‏ سؤال عن سبب العجلة يتضمن إنكارها من حيث إنها نقيصة في نفسها انضم إليها إغفال القوم وإيهام التعظم عليهم فلذلك أجاب موسى عن الأمرين وقدم جواب الإِنكار لأنه أهم‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ موسى‏.‏ ‏{‏هُمْ أُوْلآءِ على أَثَرِى‏}‏ أي ما تقدمتهم إلا بخطاً يسيرة لا يعتد بها عادة وليس بيني وبينهم إلا مسافة قريبة يتقدم بها الرفقة بعضهم بعضاً‏.‏ ‏{‏وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى‏}‏ فإن المسارعة إلى امتثال أمرك والوفاء بعهدك توجب مرضاتك‏.‏

‏{‏قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ‏}‏ ابتليناهم بعبادة العجل بعد خروجك من بينهم وهم الذين خلفهم مع هارون وكانوا ستمائة ألف ما نجا من عبادة العجل منهم إلا اثنا عشر ألفاً‏.‏ ‏{‏وَأَضَلَّهُمُ السامرى‏}‏ باتخاذ العجل والدعاء إلى عبادته، وقرئ ‏{‏وَأَضَلَّهُمْ‏}‏ أي أشدهم ضلالاً لأنه كان ضالاً مضلاً، وإن صح أنهم أقاموا على الدين بعد ذهابه عشرين ليلة وحسبوها بأيامها أربعين وقالوا قد أكملنا العدة ثم كان أمر العجل، وإن هذا الخطاب كان له عند مقدمه إذ ليس في الآية ما يدل عليه كان ذلك إخباراً من الله له عن المترقب بلفظ الواقع على عادته، فإن أصل وقوع الشيء أن يكون في علمه ومقتضى مشيئته، و‏{‏السامري‏}‏ منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة‏.‏ وقيل كان علجا من كرمان‏.‏ وقيل من أهل باجرما واسمه موسى بن ظفر وكان منافقاً‏.‏

‏{‏فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ‏}‏ بعد ما استوفى الأربعين وأخذ التوراة ‏{‏غضبان‏}‏ عليهم‏.‏

‏{‏أَسِفاً‏}‏ حزيناً بما فعلوا‏.‏ ‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً‏}‏ بأن يعطيكم التوراة فيها هدى ونور‏.‏ ‏{‏أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد‏}‏ أي الزمان يعني زمان مفارقته لهم‏.‏ ‏{‏أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ‏}‏ يجب عليكم‏.‏ ‏{‏غَضَبٌ مِّنْ رَّبِّكُمْ‏}‏ بعبادة ما هو مثل في الغباوة‏.‏ ‏{‏فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي‏}‏ وعدكم إياي بالثبات على الإِيمان بالله والقيام على ما أمرتكم به، وقيل هو من أخلفت وعده إذا وجدت الخلف فيه، أي فوجدتم الخلف في وعدي لكم بالعود بعد الأربعين، وهو لا يناسب الترتيب على الترديد ولا على الشق الذي يليه ولا جوابهم له‏.‏

‏{‏قَالُواْ مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا‏}‏ بأن ملكنا أمرنا إذ لو خلينا وأمرنا ولم يسول لنا السامري لما أخلفناه، وقرأ نافع وعاصم ‏{‏بِمَلْكَنَا‏}‏ بالفتح وحمزة والكسائي بالضم وثلاثتها في الأصل لغات في مصدر ملكت الشيء‏.‏ ‏{‏ولكنا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القوم‏}‏ حملنا أحمالاً من حلى القبط التي استعرناها منهم حين هممنا بالخروج من مصر باسم العرس‏.‏ وقيل استعاروا لعيد كان لهم ثم لم يردوا عند الخروج مخافة أن يعلموا به‏.‏ وقيل‏:‏ هي ما ألقاه البحر على الساحل بعد إغراقهم فأخذوه ولعلهم سموها أوزاراً لأنها آثام، فإن الغنائم لم تكن تحل بعد أو لأنهم كانوا مستأمنين وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي‏.‏ ‏{‏فَقَذَفْنَاهَا‏}‏ أي في النار‏.‏ ‏{‏فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامري‏}‏ أي ما كان معه منها‏.‏ روي أنهم لما حسبوا أن العدة قد كملت قال لهم السامري‏:‏ إنما أخلف موسى ميعادكم لما معكم من حلى القوم وهو حرام عليكم، فالرأي أن نحفر حفيرة ونسجر فيها ناراً ونقذف كل ما معنا فيها ففعلوا‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر وروح ‏{‏حملنا‏}‏ بالفتح والتخفيف‏.‏

‏{‏فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً‏}‏ من تلك الحلي المذابة‏.‏ ‏{‏لَّهُ خُوَارٌ‏}‏ صوت العجل‏.‏ ‏{‏فَقَالُواْ‏}‏ يعني السامري ومن افتتن به أول ما رآه‏.‏ ‏{‏هذا إلهكم وإله موسى فَنَسِيَ‏}‏ أي فنسيه موسى وذهب يطلبه عند الطور، أو فنسي السامري أن ترك ما كان عليه من إظهار الإِيمان‏.‏

‏{‏أَفَلاَ يَرَوْنَ‏}‏ أفلا يعلمون‏.‏ ‏{‏أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً‏}‏ أنه لا يرجع إليهم كلاماً ولا يرد عليهم جواباً‏.‏ وقرئ ‏{‏يرجع‏}‏ بالنصب وفيه ضعف لأن أن الناصبة لا تقع بعد أفعال اليقين‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً‏}‏ ولا يقدر على إنفاعهم وإضرارهم‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هارون مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل رجوع موسى عليه الصلاة والسلام، أو قول السامري كأنه أول ما وقع عليه بصره حين طلع من الحفرة توهم ذلك وبادرَ تحذيرهم‏.‏ ‏{‏ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ‏}‏ بالعجل‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن‏}‏ لا غير‏.‏ ‏{‏فاتبعونى وَأَطِيعُواْ أَمْرِي‏}‏ في الثبات على الدين‏.‏

‏{‏قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ‏}‏ على العجل وعبادته‏.‏ ‏{‏عاكفين‏}‏ مقيمين‏.‏ ‏{‏حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى‏}‏ وهذا الجواب يؤيد الوجه الأول‏.‏

‏{‏قَالَ ياهارون‏}‏ أي قال له موسى حين رجع‏.‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ‏}‏ بعبادة العجل‏.‏

‏{‏أَلاَّ تَتَّبِعَنِ‏}‏ أن تتبعني في الغضب لله والمقاتلة مع من كفر به، أو أن تأتي عقبي وتلحقني و«لا» مزيدة كما في قوله ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدَ‏}‏ ‏{‏أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى‏}‏ بالصلابة في الدين والمحاماة عليه‏.‏

‏{‏قَالَ يابن أُمَّ‏}‏ خص الأم استعطافاً وترقيقاً، وقيل لأنه كان أخاه من الأم والجمهور على أنهما كانا من أب وأم‏.‏ ‏{‏لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى‏}‏ أي بشعر رأسي قبض عليهما يجره إليه من شدة غيظه وفرط غضبه لله، وكان عليه الصلاة والسلام حديداً خشناً متصلباً في كل شيء فلم يتمالك حين رآهم يعبدون العجل‏.‏ ‏{‏إِنّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءِيلَ‏}‏ لو قاتلت أو فارقت بعضهم ببعض‏.‏ ‏{‏وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى‏}‏ حين قلت ‏{‏اخلفنى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ‏}‏ فإن الإِصلاح كان في حفظ الدهماء والمداراة لهم أن ترجع إليهم فتتدارك الأمر برأيك‏.‏

‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكَ ياسامري‏}‏ أي ثم أقبل عليه وقال له منكراً ما خطبك أي ما طلبك له وما الذي حملك عليه، وهو مصدر خطب الشيء إذا طلبه‏.‏

‏{‏ياسامري قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ‏}‏ وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب أي علمت بما لم تعلموه وفطنت لما لم تفطنوا له، وهو أن الرسول الذي جاءك روحاني محض لا يمس أثره شيئاً إلا أحياه، أو رأيت ما لم تروه وهو أن جبريل عليه الصلاة والسلام جاءك على فرس الحياة‏.‏ وقيل إنما عرفه لأن أمه ألقته حين ولدته خوفاً من فرعون وكان جبريل يغذوه حتى استقل‏.‏ ‏{‏فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول‏}‏ من تربة موطئه والقبضة المرة من القبض فأطلق على المقبوض كضرب الأمير، وقرئ بالصاد والأول للأخذ بجميع الكف والثاني للأخذ بأطراف الأصابع ونحوهما الخضم والقضم، والرسول جبريل عليه الصلاة والسلام ولعله لم يسمه لأنه لم يعرف أنه جبريل أو أراد أن ينبه على الوقت وهو حين أرسل إليه ليذهب به إلى الطور‏.‏ ‏{‏فَنَبَذْتُهَا‏}‏ في الحلي المذاب أو في جوف العجل حتى حيي‏.‏ ‏{‏وكذلك سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى‏}‏ زينته وحسنته لي‏.‏

‏{‏قَالَ فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِى الحياة‏}‏ عقوبة على ما فعلت‏.‏ ‏{‏أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ‏}‏ خوفاً من أن يمسك أحد فتأخذك الحمى ومن مسك فتتحامى الناس ويتحاموك وتكون طريداً وحيداً كالوحش النافر، وقرئ ‏{‏لاَ مِسَاسَ‏}‏ كفجار وهو علم للمسة‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً‏}‏ في الآخرة‏.‏ ‏{‏لَّن تُخْلَفَهُ‏}‏ لن يخلفكه الله وينجزه لك في الآخرة بعد ما عاقبك في الدنيا، وقرأ ابن كثير والبصريان بكسر اللام أي لن تخلف الواعد إياه وسيأتيك لا محالة، فحذف المفعول الأول لأن المقصود هو الموعد ويجوز أن يكون من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفاً، وقرئ بالنون على حكاية قول الله‏.‏ ‏{‏وانظر إلى إلهك الذى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً‏}‏ ظللت على عبادته مقيماً فحذف اللام الأولى تخفيفاً، وقرئ بكسر الظاء على نقل حركة اللام إليها‏.‏ ‏{‏لَّنُحَرّقَنَّهُ‏}‏ أي بالنار ويؤيده قراءة ‏{‏لَّنُحَرّقَنَّهُ‏}‏، أو بالمبرد على أنه مبالغة في حرق إذ برد بالمبرد ويعضده قراءة ‏{‏لَّنُحَرّقَنَّهُ‏}‏‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ‏}‏ ثم لنذرينه رماداً أو مبروداً وقرئ بضم السين‏.‏ ‏{‏فِى اليم نَسْفاً‏}‏ فلا يصادف منه شيء والمقصود من ذلك زيادة عقوبته وإظهار غباوة المفتتنين به لمن له أدنى نظر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ‏(‏98‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا إلهكم‏}‏ المستحق لعبادتكم‏.‏ ‏{‏الله الذى لا إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ إذ لا أحد يماثله أو يدانيه في كمال العلم والقدرة‏.‏ ‏{‏وَسِعَ كُلَّ شَئ عِلْماً‏}‏ وسع علمه كل ما يصح أن يعلم لا العجل الذي يصاغ ويحرق وإن كان حياً في نفسه كان مثلاً في الغباوة، وقرئ ‏{‏وسع‏}‏ فيكون انتصاب ‏{‏عِلْمًا‏}‏ على المفعولية لأنه وإن انتصب على التمييز في المشهورة لكنه فاعل في المعنى فلما عدي الفعل بالتضعيف إلى المفعولين صار مفعولاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏كذلك‏}‏ مثل ذلك الاقتصاص يعني اقتصاص قصة موسى عليه الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ‏}‏ من أخبار الأمورالماضية والأمم الدارجة تبصرة لك وزيادة في علمك وتكثيراً لمعجزاتك وتنبيهاً وتذكيراً للمستبصرين من أمتك‏.‏ ‏{‏وَقَدْ آتيناك مِن لَّدُنَّا ذِكْراً‏}‏ كتاباً مشتملاً على هذه الأقاصيص والأخبار حقيقاً بالتفكر والاعتبار، والتنكير فيه للتعظيم‏.‏ وقيل ذكراً جميلاً وصيتاً عظيماً بين الناس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ‏(‏100‏)‏‏}‏

‏{‏مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ‏}‏ عن الذكر الذي هو القرآن الجامع لوجوه السعادة والنجاة وقيل عن الله‏.‏ ‏{‏فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً‏}‏ عقوبة ثقيلة فادحة على كفره، وذنوبه سماها ‏{‏وِزْراً‏}‏ تشبيهاً في ثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها بالحمل الذي يفدح الحامل وينقض ظهره، أو إثماً عظيماً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا ‏(‏101‏)‏‏}‏

‏{‏خالدين فِيهِ‏}‏ في الوزر أو في حمله، والجمع فيه والتوحيد في أعرض للحمل على المعنى واللفظ‏.‏ ‏{‏وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً‏}‏ أي بئس لهم ففيه ضمير مبهم يفسره ‏{‏حِمْلاً‏}‏، والمخصوص بالذم محذوف أي ساء حملاً وزرهم، واللام في ‏{‏لَهُمْ‏}‏ للبيان كما في ‏{‏هَيْتَ لَكَ‏}‏ ولو جعلت ‏{‏سَاء‏}‏ بمعنى أحزن والضمير الذي فيه للوزر أشكل أمر اللام ونصب ‏{‏حِمْلاً‏}‏ ولم يفد مزيد معنى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ‏(‏102‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور‏}‏ وقرأ أبو عمرو بالنون على إسناد النفخ إلى الآمر به تعظيماً له أو للنافخ‏.‏ وقرئ بالياء المفتوحة على أن فيه ضمير الله أو ضمير إسرافيل وإن لم يجر ذكره لأنه المشهور بذلك، وقرئ ‏{‏فِى الصور‏}‏ وهو جمع صورة وقد سبق بيان ذلك ‏{‏وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ‏}‏ وقرئ «ويحشر المجرمون» ‏{‏زُرْقاً‏}‏ زرق العيون وصفوا بذلك لأن الزرقة أسوأ ألوان العين وأبغضها إلى العرب، لأن الروم كانوا أعدى أعدائهم وهم زرق العين ولذلك قالوا‏:‏ صفة العدو أسود الكيد، أصهب السبال، أزرق العين أو عمياً، فإن حدقة الأعمى تزراق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا ‏(‏103‏)‏‏}‏

‏{‏يتخافتون بَيْنَهُمْ‏}‏ يخفضون أصواتهم لما يملأ صدورهم من الرعب والهول والخفت خفض الصوت وإخفاؤه‏.‏ ‏{‏إِنْ‏}‏ ما ‏{‏لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً‏}‏ أي في الدنيا يستقصرون مدة لبثهم فيها لزوالها، أو لاستطالتهم مدة الآخرة أو لتأسفهم عليها لما عاينوا الشدائد وعلموا أنهم استحقوها على إضاعتها في قضاء الأوطار واتباع الشهوات، أو في القبر لقوله ‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة‏}‏ إلى آخر الآيات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا ‏(‏104‏)‏‏}‏

‏{‏نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ‏}‏ وهو مدة لبثهم‏.‏ ‏{‏إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً‏}‏ أعدلهم رأياً أو عملاً‏.‏ ‏{‏إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً‏}‏ استرجاح لقول من يكون أشد تقالاً منهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ‏(‏105‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال‏}‏ عن مآل أمرها وقد سأل عنها رجل من ثقيف‏.‏ ‏{‏فَقُلْ‏}‏ لهم‏.‏ ‏{‏يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفاً‏}‏ يجعلها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ‏(‏106‏)‏‏}‏

‏{‏فَيَذَرُهَا‏}‏ فيذر مقارها، أو الأرض وإضمارها من غير ذكر لدلالة ‏{‏الجبال‏}‏ عليها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ‏}‏ ‏{‏قَاعاً‏}‏ خالياً ‏{‏صَفْصَفاً‏}‏ مستوياً كأن أجزاءها على صف واحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً‏}‏ اعوجاجاً ولا نتواً إن تأملت فيها بالقياس الهندسي، وثلاثتها أحوال مترتبة فالأولان باعتبار الإِحساس والثالث باعتبار المقياس ولذلك ذكر العوج بالكسر وهو يخص بالمعاني، والأمت وهو النتوء اليسير وقيل لا ترى استئناف مبين للحالين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ‏(‏108‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ أي يوم إذ نسفت على إضافة اليوم إلى وقت النسف، ويجوز أن يكون بدلاً ثانياً من يوم القيامة‏.‏ ‏{‏يَتَّبِعُونَ الداعي‏}‏ داعي الله إلى المحشر، قيل هو إسرافيل يدعو الناس قائماً على صخرة بيت المقدس فيقبلون من كل أوب إلى صوبه ‏{‏لاَ عِوَجَ لَهُ‏}‏ لا يعوج له مدعو ولا يعدل عنه‏.‏ ‏{‏وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن‏}‏ خفضت لمهابته‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً‏}‏ صوتاً خفياً ومنه الهميس لصوت أخفاف الإِبل، وقد فسر الهمس بخفق أقدامهم ونقلها إلى المحشر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 115‏]‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ‏(‏109‏)‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ‏(‏110‏)‏ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ‏(‏111‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ‏(‏112‏)‏ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ‏(‏113‏)‏ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ‏(‏114‏)‏ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ‏(‏115‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن‏}‏ الاستثناء من الشفاعة أي إلا شفاعة من أذن له أو من أعم المفاعيل، أي إلا من أذن في أن يشفع له فإن الشفاعة تنفعه، فَ ‏{‏مَنْ‏}‏ على الأول مرفوع على البدلية وعلى الثاني منصوب على المفعولية و‏{‏أَذِنَ‏}‏ يحتمل أن يكون من الاذن ومن الأذن‏.‏ ‏{‏وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً‏}‏ أي ورضي لمكانه عند الله قوله في الشفاعة أو رضي لأجله قول الشافع في شأنه، أو قوله لأجله وفي شأنه‏.‏

‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ما تقدمهم من الأحوال‏.‏ ‏{‏وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ وما بعدهم مما يستقبلونه‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً‏}‏ ولا يحيط علمهم بمعلوماته، وقيل بذاته وقيل الضمير لأحد الموصولين أو لمجموعها، فإنهم لم يعلموا جميع ذلك ولا تفصيل ما علموا منه‏.‏

‏{‏وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَىِّ القيوم‏}‏ ذلت وخضعت له خضوع العناة وهم الأساري في يد الملك القهار، وظاهرها يقتضي العموم ويجوز أن يراد بها وجوه المجرمين فتكون اللام بدل الإِضافة ويؤيده‏.‏ ‏{‏وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً‏}‏ وهو يحتمل الحال والاستئناف ما لأجله عنت وجوههم‏.‏

‏{‏وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات‏}‏ بعض الطاعات‏.‏ ‏{‏وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ إذ الإِيمان شرط في صحة الطاعات وقبول الخيرات‏.‏ ‏{‏فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً‏}‏ منع ثواب مستحق بالوعد ‏{‏وَلاَ هَضْماً‏}‏ ولا كسراً منه بنقصان أو جزاء ظلم وهضم لأنه لم يظلم غيره ولم يهضم حقه، وقرئ «فلا يخف» على النهي‏.‏

‏{‏وكذلك‏}‏ عطف على كذلك نقص أي مثل ذلك الإِنزال أو مثل إنزال هذه الآيات المتضمنة للوعيد‏.‏ ‏{‏أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيّاً‏}‏ كله على هذه الوتيرة‏.‏ ‏{‏وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد‏}‏ مكررين آيات الوعيد‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ المعاصي فتصير التقوى لهم ملكة‏.‏ ‏{‏أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً‏}‏ عظة واعتباراً حين يسمعونها فتثبطهم عنها، ولهذه النكتة أسند التقوى إليه والإِحداث إلى القرآن‏.‏

‏{‏فتعالى الله‏}‏ في ذاته وصفاته عن مماثلة المخلوقين لا يماثل كلامه كلامهم كما لا تماثل ذاته ذاتهم‏.‏ ‏{‏الملك‏}‏ النافذ أمره ونهيه الحقيق بأن يرجى وعده ويخشى وعيده‏.‏ ‏{‏الحق‏}‏ في ملكوته يستحقه لذاته، أو الثابت في ذاته وصفاته ‏{‏وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ‏}‏ نهي عن الاستعجال في تلقي الوحي من جبريل عليه السلام ومساوقته في القراءة حتى يتم وحيه بعد ذكر الإِنزال على سبيل الاستطراد‏.‏ وقيل نهي عن تبليغ ما كان مجملاً قبل أن يأتي بيانه‏.‏ ‏{‏وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً‏}‏ أي سل الله زيادة العلم بدل الاستعجال فإن ما أوحى إليك تناله لا محالة‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى ءَادَمَ‏}‏ ولقد أمرناه يقال تقدم الملك إليه وأوعز إليه وعزم عليه وعهد إليه إذا أمره، واللام جواب قسم محذوف وإنما عطف قصة آدم على قوله

‏{‏وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد‏}‏ للدلالة على أن أساس بني آدم على العصيان وعرقهم راسخ في النسيان‏.‏ ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل هذا الزمان‏.‏ ‏{‏فَنَسِىَ‏}‏ العهد ولم يعن به حتى غفل عنه، أو ترك ما وصي به من الاحتراز عن الشجرة‏.‏ ‏{‏وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً‏}‏ تصميم رأي وثباتاً على الأمر إذ لو كان ذا عزيمة وتصلب لم يزله الشيطان ولم يستطع تغريره، ولعل ذلك كان في بدء أمره قبل أن يجرب الأمور ويذوق شريها وأريها‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لو وزنت أحلام بني آدم بحلم آدم لرجح حلمه وقد قال الله تعالى ‏{‏وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً‏}‏» وقيل عزماً على الذنب لأنه أخطأ ولم يتعمده ونجد إن كان من الوجود الذي بمعنى العلم فله عزماً مفعولاه، وإن كان من الوجود المناقض للعدم فله حال من عزماً أو متعلق بنجد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى ‏(‏116‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ‏}‏ مقدر باذكر أي اذكر حاله في ذلك الوقت ليتبين لك أنه نسي ولم يكن من أولي العزيمة والثبات‏.‏ ‏{‏فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ‏}‏ قد سبق القول فيه‏.‏ ‏{‏أبى‏}‏ جملة مستأنفة لبيان ما منعه من السجود وهو الاستكبار وعلى هذا لا يقدر له مفعول مثل السجود المدلول عليه بقوله ‏{‏فَسَجَدُواْ‏}‏ لأن المعنى أظهر الإِباء عن المطاوعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ‏(‏117‏)‏‏}‏

‏{‏فَقُلْنَا يائادم إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا‏}‏ فلا يكونن سبباً لإِخراجكما، والمراد نهيهما عن أن يكون بحيث يتسبب الشيطان إلى إخراجهما‏.‏ ‏{‏مِنَ الجنة فتشقى‏}‏ وأفرده بإسناد الشقاء إليه بعد إشراكهما في الخروج اكتفاء باستلزام شقائه شقاءها من حيث إنه قيم عليها ومحافظة على الفواصل، أو لأن المراد بالشقاء التعب في طلب المعاش وذلك وظيفة الرجال ويؤيده قوله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى ‏(‏118‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ لَكَ أَن لا تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏

‏{‏وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ‏(‏119‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تضحى‏}‏ فإنه بيان وتذكير لما له في الجنة من أسباب الكفاية وأقطاب الكفاف التي هي الشبع والري والكسوة والسكن مستغنياً عن اكتسابها والسعي في تحصيل أغراض ما عسى ينقطع ويزول منها بذكر نقائضها، ليطرق سمعه بأصناف الشقوة المحذر عنها، والعاطف وإن ناب عن أن لكنه ناب من حيث إنه عامل لا من حيث إنه حرف تحقيق فلا يمتنع دخوله على أن امتناع دخول إن عليه‏.‏ وقرأ نافع وأبو بكر ‏{‏وَإِنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا‏}‏ بكسر الهمزة والباقون بفتحها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏120‏]‏

‏{‏فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى ‏(‏120‏)‏‏}‏

‏{‏فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان‏}‏ فانتهى إليه وسوسته‏.‏ ‏{‏قَالَ يَاءَادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد‏}‏ الشجرة التي من أكل منها خلد ولم يمت أصلاً‏.‏ فأضافها إلى الخلد أي الخلود لأنها سببه بزعمه‏.‏ ‏{‏وَمُلْكٍ لاَّ يبلى‏}‏ لا يزول ولا يضعف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121- 121‏]‏

‏{‏فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ‏(‏121‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سوءاتهما وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة‏}‏ أخذا يلزقان الورق على سوآتهما للتستر وهو ورق التين ‏{‏وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ‏}‏ بأكل الشجرة‏.‏ ‏{‏فغوى‏}‏ فضل عن المطلوب وخاب حيث طلب الخلد بأكل الشجرة، أو عن المأمور به أو عن الرشد حيث اغتر بقول العدو‏.‏ وقرئ ‏{‏فغوى‏}‏ من غوى الفصيل إذا أتخم من اللبن وفي النعي عليه بالعصيان والغواية مع صغر زلته تعظيم للزلة وزجر بليغ لأولاده عنها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏122‏]‏

‏{‏ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ‏(‏122‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ‏}‏ اصطفاه وقربه بالحمل على التوبة والتوفيق لها من أجبى إلى كذا فاجتبيته مثل جليت على العروس فاجتليتها، وأصل معنى الكلمة الجمع‏.‏ ‏{‏فَتَابَ عَلَيْهِ‏}‏ فقبل توبته لما تاب‏.‏ ‏{‏وهدى‏}‏ إلى الثبات على التوبة والتثبت بأسباب العصمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ‏(‏123‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً‏}‏ الخطاب لآدم وحواء، أو له ولإِبليس ولما كانا أصليَّ الذرية خاطبهما مخاطبتهم فقال‏:‏ ‏{‏بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ‏}‏ لأمر المعاش كما عليه الناس من التجاذب والتحارب، أو لاختلال حال كل من النوعين بواسطة الآخر ويؤيد الأول قوله‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنًى هُدًى‏}‏ كتاب ورسول‏.‏ ‏{‏فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ‏}‏ في الدنيا‏.‏ ‏{‏وَلاَ يشقى‏}‏ في الآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏124‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ‏(‏124‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي‏}‏ عن الهدى الذاكر لي والداعي إلى عبادتي‏.‏ ‏{‏فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً‏}‏ ضيقاً مصدر وصف به ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث، وقرئ ‏{‏ضنكى‏}‏ كسكرى، وذلك لأن مجامع همته ومطامح نظره تكون إلى أعراض الدنيا متهالكاً على ازديادها خائفاً على انتقاصها، بخلاف المؤمن الطالب للآخرة مع أنه تعالى قد يضيق بشؤم الكفر ويوسع ببركة الإِيمان كما قال ‏{‏وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة‏}‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل‏}‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءامَنُواْ واتقوا‏}‏ الآيات، وقيل هو الضريع والزقوم في النار، وقيل عذاب القبر ‏{‏وَنَحْشُرُهُ‏}‏ قرئ بسكون الهاء على لفظ الوقف وبالجزم عطفاً على محل ‏{‏فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً‏}‏ لأنه جواب الشرط‏.‏ ‏{‏يَوْمَ القيامة أعمى‏}‏ أعمى البصر أو القلب ويؤيد الأول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ‏(‏125‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً‏}‏ وقد أمالهما حمزة والكسائي لأن الألف منقلبة من الياء، وفرق أبو عمرو بأن الأول رأس الآية ومحل الوقف فهو جدير بالتغيير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏126‏]‏

‏{‏قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ‏(‏126‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ كذلك‏}‏ أي مثل ذلك فعلت ثم فسره فقال‏:‏ ‏{‏أَتَتْكَ ءاياتنا‏}‏ واضحة نيرة‏.‏ ‏{‏فَنَسِيتَهَا‏}‏ فعميت عنها وتركتها غير منظور إليها‏.‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ ومثل تركك إياها‏.‏ ‏{‏اليوم تنسى‏}‏ تترك في العمى والعذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ‏(‏127‏)‏‏}‏

‏{‏وكذلك نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ‏}‏ بالانهماك في الشهوات والإِعراض عن الآيات‏.‏ ‏{‏وَلَمْ يُؤْمِنْ بئايات رَبِّهِ‏}‏ بل كذب بها وخالفها‏.‏ ‏{‏وَلَعَذَابُ الأخرة‏}‏ وهو الحشر على العمى، وقيل عذاب النار أي وللنار بعد ذلك‏.‏ ‏{‏أَشَدُّ وأبقى‏}‏ من ضنك العيش أو منه ومن العمى، ولعله إذا دخل النار زال عماه ليرى محله وحاله أو مما فعله من ترك الآيات والكفر بها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ‏(‏128‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ‏}‏ مسند إلى الله تعالى أو الرسول أو ما دل عليه‏.‏ ‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون‏}‏ أي إهلاكنا إياهم أو الجملة بمضمونها، والفعل على الأولين معلق يجري مجرى أعلم ويدل عليه القراءة بالنون‏.‏ ‏{‏يَمْشُونَ فِى مساكنهم‏}‏ ويشاهدون آثار هلاكهم‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لأيات لأُوْلِى النهى‏}‏ لذوي العقول الناهية عن التغافل والتعامي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏129- 135‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ‏(‏129‏)‏ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ‏(‏130‏)‏ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏131‏)‏ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ‏(‏132‏)‏ وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى ‏(‏133‏)‏ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ‏(‏134‏)‏ قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ‏(‏135‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ‏}‏ وهي العدة بتأخير عذاب هذه الأمة إلى الآخرة‏.‏ ‏{‏لَكَانَ لِزَاماً‏}‏ لكان مثل ما نزل بعاد وثمود لازماً لهؤلاء الكفرة، وهو مصدر وصف به أو اسم آلة سمي به اللازم لفرط لزومه كقولهم لزاز خصم‏.‏ ‏{‏وَأَجَلٌ مُّسَمًّى‏}‏ عطف على كلمة أي ولولا العدة بتأخير العذاب وأجل مسمى لأعمارهم، أو لعذابهم وهو يوم القيامة أو يوم بدر لكان العذاب لزاماً والفصل للدلالة على استقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب، ويجوز عطفه على المستكن في كان أي لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين له‏.‏

‏{‏فاصبر على مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ‏}‏ وصل وأنت حامد لربك على هدايته وتوفيقه، أو نزهه عن الشرك وسائر ما يضيفون إليه من النقائص حامداً له على ما ميزك بالهدى معترفاً بأنه المولى للنعم كلها‏.‏ ‏{‏قَبْلَ طُلُوعِ الشمس‏}‏ يعني الفجر‏.‏ ‏{‏وَقَبْلَ غُرُوبِهَا‏}‏ يعني الظهر والعصر لأنهما في آخر النهار أو العصر وحده‏.‏ ‏{‏وَمِنْ ءَانَاءِ اليل‏}‏ ومن ساعاته جمع أنا بالكسر والقصر، أو أناء بالفتح والمد‏.‏ ‏{‏فَسَبِّحْ‏}‏ يعني المغرب والعشاء وإنما قدم زمان الليل لاختصاصه بمزيد الفضل فإن القلب فيه أجمع والنفس أميل إلى الاستراحة فكانت العبادة فيه أحمز ولذلك قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ نَاشِئَةَ اليل هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً‏}‏ ‏{‏وَأَطْرَافَ النهار‏}‏ تكرير لصلاتي الصبح والمغرب إرادة الاختصاص، ومجيئه بلفظ الجمع لأمن الإِلباس كقوله‏:‏

ظَهْرَاهُمَا مِثْل ظُهُورِ التِرْسَيْنِ *** أو أمر بصلاة الظهر فإنه نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الآخر وجمعه باعتبار النصفين أو لأن النهار جنس، أو بالتطوع في أجزاء النهار‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكَ ترضى‏}‏ متعلق ب ‏{‏سَبِّح‏}‏ أي سبح في هذه الأوقات طمعاً أن تنال عند الله ما به ترضي نفسك‏.‏ وقرأ الكسائي وأبو بكر بالبناء للمفعول أي يرضيك ربك‏.‏

‏{‏وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ‏}‏ أي نظر عينيك‏.‏ ‏{‏إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ‏}‏ استحساناً له وتمنياً أن يكون مثله‏.‏ ‏{‏أزواجا مِّنْهُمْ‏}‏ وأصنافاً من الكفرة، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في به والمفعول منهم أي الذي متعنا به، وهو أصناف بعضهم أو ناساً منهم‏.‏ ‏{‏زَهْرَةَ الحياة الدنيا‏}‏ منصوب بمحذوف دل عليه ‏{‏مَتَّعْنَا‏}‏ أو ‏{‏بِهِ‏}‏ على تضمينه معنى أعطينا، أو بالبدل من محل ‏{‏بِهِ‏}‏ أو من ‏{‏أزواجا‏}‏ بتقدير مضاف ودونه، أو بالذم وهي الزينة والبهجة‏.‏ وقرأ يعقوب بالفتح وهو لغة كالجهرة في الجهرة، أو جمع زاهر وصف لهم بأنهم زاهرو الدنيا لتنعمهم وبهاء زيهم بخلاف ما عليه المؤمنون الزهاد‏.‏ ‏{‏لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ‏}‏ لنبلوهم ونختبرهم فيه، أو لنعذبهم في الآخرة بسببه‏.‏ ‏{‏وَرِزْقُ رَبِّكَ‏}‏ وما ادخر لك في الآخرة، أو ما رزقك من الهدى والنبوة‏.‏

‏{‏خَيْرٌ‏}‏ مما منحهم في الدنيا‏.‏ ‏{‏وأبقى‏}‏ فإنه لا ينقطع‏.‏

‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة‏}‏ أمره بأن يأمر أهل بيته أو التابعين له من أمته بالصلاة بعد ما أمر بها ليتعاونوا على الاستعانة بها على خصاصتهم ولا يهتموا بأمر المعيشة ولا يلتفتوا لفت أرباب الثروة‏.‏ ‏{‏واصطبر عَلَيْهَا‏}‏ وداوم عليها‏.‏ ‏{‏لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً‏}‏ أي أن ترزق نفسك ولا أهلك‏.‏ ‏{‏نَّحْنُ نَرْزُقُكَ‏}‏ وإياهم ففرغ بالك لأمر الآخرة‏.‏ ‏{‏والعاقبة‏}‏ المحمودة‏.‏ ‏{‏للتقوى‏}‏ لذوي التقوى‏.‏ روي ‏"‏ أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أصاب أهله ضرٌ أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية ‏"‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِئَايَةٍ مِّن رَّبِّهِ‏}‏ بآية تدل على صدقه في إهداء النبوة، أو بآية مقترحة إنكاراً لما جاء به من الآيات، أو للاعتداد به تعنتاً وعناداً فألزمهم بإتيانه بالقرآن الذي هو أم المعجزات وأعظمها وأبقاها، لأن حقيقة المعجزة اختصاص مدعي النبوة بنوع من العلم أو العمل على وجه خارق للعادة، ولا شك أن العلم أصل العمل وأعلى منه قدراً وأبقى أثراً فكذا ما كان من هذا القبيل، ونبههم أيضاً على وجه أبين من الوجوه المختصة بهذا الباب فقال‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِى الصحف الأولى‏}‏ من التوراة والإِنجيل وسائر الكتب السماوية، فإن اشتمالها على زبدة ما فيها من العقائد والأحكام الكلية مع أن الآتي بها أُميّ لم يرها ولم يتعلم ممن علمها إعجاز بين، وفيه إشعار بأنه كما يدل على نبوته برهان لما تقدمه من الكتب من حيث إنه معجز وتلك ليست كذلك، بل هي مفتقرة إلى ما يشهد على صحتها‏.‏ وقرئ»الصحف«بالتخفيف وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم ‏{‏أَوَ لَمْ تَأْتِهِم‏}‏ بالتاء والباقون بالياء‏.‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ‏}‏ من قبل محمد عليه الصلاة والسلام أو البينة والتذكير لأنها في معنى البرهان، أو المراد بها القرآن‏.‏ ‏{‏لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءاياتك مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ‏}‏ بالقتل والسبي في الدنيا‏.‏ ‏{‏ونخزى‏}‏ بدخول النار يوم القيامة، وقد قرئ بالبناء للمفعول فيهما‏.‏

‏{‏قُلْ كُلٌّ‏}‏ أي كل واحد منا ومنكم‏.‏ ‏{‏مُّتَرَبِّصٌ‏}‏ منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم‏.‏ ‏{‏فَتَرَبَّصُواْ‏}‏ وقرئ «فتمتعوا»‏.‏ ‏{‏فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أصحاب الصراط السوي‏}‏ المستقيم، وقرئ «السواء» أي الوسط الجيد و«السوآى» و«السوء» أي الشر، و«السوي» هو تصغيره‏.‏ ‏{‏وَمَنِ اهتدى‏}‏ من الضلالة و‏{‏من‏}‏ في الموضعين للاستفهام ومحلها الرفع بالابتداء، ويجوز أن تكون الثانية موصولة بخلاف الأولى لعدم العائد فتكون معطوفة على محل الجملة الاستفهامية المعلق عنها الفعل على أن العلم بمعنى المعرفة أو على أصحاب أو على الصراط على أن المراد به النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وعنه صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قرأ طه أعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم أجمعين ‏"‏‏.‏

سورة الأنبياء

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏اقترب لِلنَّاسِ حسابهم‏}‏ بالإِضافة إلى ما مضى أو ما عند الله لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً‏}‏ وقوله ‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ‏}‏ أو لأن كل ما هو آت قريب وإنما البعيد ما انقرض ومضى، واللام صلة ل ‏{‏اقترب‏}‏ أو تأكيد للإِضافة وأصله اقترب حساب الناس ثم اقترب للناس الحساب ثم اقترب للناس حسابهم، وخص الناس بالكفار لتقييدهم بقوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ‏}‏ أي في غفلة عن الحساب‏.‏ ‏{‏مُّعْرِضُونَ‏}‏ عن التفكر فيه وهما خبران للضمير، ويجوز أن يكون الظرف حالاً من المستكن في ‏{‏مُّعْرِضُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ‏}‏ ينبههم من سنة الغفلة والجهالة‏.‏ ‏{‏مِّن رَّبِّهِم‏}‏ صفة ل ‏{‏ذِكْرٍ‏}‏ أو صلة ل ‏{‏يَأْتِيهِم‏}‏‏.‏ ‏{‏مُّحْدَثٍ‏}‏ تنزيله ليكرر على أسماعهم التنبيه كي يتعظوا، وقرئ بالرفع حملاً على المحل‏.‏ ‏{‏إِلاَّ استمعوه وَهُمْ يَلْعَبُونَ‏}‏ يستهزئون به ويستسخرون منه لتناهي غفلتهم وفرط إعراضهم عن النظر في الأمور والتفكر في العواقب ‏{‏وَهُمْ يَلْعَبُونَ‏}‏ حال من الواو وكذلك‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ‏}‏ أي استمعوه جامعين بين الاستهزاء والتلهي والذهول عن التفكر فيه، ويجوز أن يكون من واو ‏{‏يَلْعَبُونَ‏}‏ وقرئت بالرفع على أنها خبر آخر للضمير‏.‏ ‏{‏وَأَسَرُّواْ النجوى‏}‏ بالغوا في إخفائها أو جعلوها بحيث خفي تناجيهم بها‏.‏ ‏{‏الذين ظَلَمُواْ‏}‏ بدل من واو ‏{‏وَأَسَرُّواْ‏}‏ للإِيماء بأنهم ظالمون فيما أسروا به، أو فاعل له والواو لعلامة الجمع أو مبتدأ والجملة المتقدمة خبره وأصله وهؤلاء أسروا النجوى فوضع الموصول موضعه تسجيلاً على فعلهم بأنه ظلم أو منصوب على الذم‏.‏ ‏{‏هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ‏}‏ بأمره في موضع النصب بدلاً من ‏{‏النجوى‏}‏، أو مفعولاً لقول مقدر كأنهم استدلوا بكونه بشراً على كذبه في ادعاء الرسالة لاعتقادهم أن الرسول لا يكون إلا ملكاً، واستلزموا منه أن ما جاء به من الخوارق كالقرآن سحر فأنكروا حضوره، وإنما أسروا به تشاوراً في استنباط ما يهدم أمره ويظهر فساده للناس عامة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏قُل رَّبِّى يَعْلَمُ القول فِى السماء والأرض‏}‏ جهراً كان أو سراً فضلاً عما أسروا به فهو آكد من قوله ‏{‏قُلْ أَنزَلَهُ الذى يَعْلَمُ السر فِى السموات والأرض‏}‏ ولذلك اختير ها هنا وليطابق قوله ‏{‏وَأَسَرُّواْ النجوى‏}‏ في المبالغة‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وحفص ‏{‏قَالَ‏}‏ بالإِخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏وَهُوَ السميع العليم‏}‏ فلا يخفى عليه ما يسرون ولا ما يضمرون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ‏}‏ إضراب لهم عن قولهم هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام ثم إلى أنه كلام افتراه، ثم إلى أنه قول شاعر والظاهر أن ‏{‏بل‏}‏ الأولى لتمام حكاية والإِبتداء بأخرى أو للإِضراب عن تحاورهم في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وما ظهر عليه من الآيات إلى تقاولهم في أمر القرآن، والثانية والثالثة لإِضرابهم عن كونه أباطيل خيلت إليه وخلطت عليه إلى كونه مفتريات اختلقها من تلقاء نفسه، ثم إلى أنه كلام شعري يخيل إلى السامع معاني لا حقيقة لها ويرغبه فيها، ويجوز أن يكون الكل من الله تنزيلاً لأقوالهم في درج الفساد لأن كونه شعراً أبعد من كونه مفترى لأنه مشحون بالحقائق والحكم وليس فيه ما يناسب قول الشعراء، وهو من كونه أحلاماً لأنه مشتمل على مغيبات كثيرة طابقت الواقع والمفتري لا يكون كذلك بخلاف الأحلام، ولأنهم جربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نيفاً وأربعين سنة وما سمعوا منه كذباً قط، وهو أبعد من كونه سحراً لأنه يجانسه من حيث إنهما من الخوارق‏.‏ ‏{‏فَلْيَأْتِنَا بِئَايَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ‏}‏ أي كما أرسل به الأولون مثل اليد البيضاء والعصا وإبراء الأكمه وإحياء الموتى، وصحة التشبيه من حيث إن الإِرسال يتضمن الإِتيان بالآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏مَا ءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ‏}‏ من أهل قرية‏.‏ ‏{‏أهلكناها‏}‏ باقتراح الآيات لما جاءتهم‏.‏ ‏{‏أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ‏}‏ لو جئتهم بها وهم أعتى منهم، وفيه تنبيه على أن عدم الإتيان بالمقترح للإِبقاء عليهم إذ لو أتى به ولم يؤمنوا استوجبوا عذاب الاستئصال كمن قبلهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً يُوحَى إِلَيْهِمْ فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ جواب لقولهم ‏{‏هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ‏}‏ فأمرهم أن يسألوا أهل الكتاب عن حال الرسل المتقدمة ليزول عنهم الشبهة والإِحالة عليهم إما للإلزام فإن المشركين كانوا يشاورونهم في أمر النبي عليه الصلاة والسلام ويثقون بقولهم، أو لأن إخبار الجم الغفير يوجب العلم وإن كانوا كفاراً‏.‏ وقرأ حفص ‏{‏نُوحِى‏}‏ بالنون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا جعلناهم جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام وَمَا كَانُواْ خالدين‏}‏ نفي لما اعتقدوا أنها من خواص الملك عن الرسل تحقيقاً لأنهم كانوا أبشاراً مثلهم‏.‏ وقيل جواب لقولهم ‏{‏مَا لهذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِى الأسواق‏}‏ ‏{‏وَمَا كَانُواْ خالدين‏}‏ تأكيد وتقرير له فإن التعيش بالطعام من توابع التحليل المؤدي إلى الفناء وتوحيد الجسد لا إرادة الجنس، أو لأنه مصدر في الأصل أو على حذف المضاف أو تأويل الضمير بكل واحد وهو جسم ذو لون فلذلك لا يطلق على الماء والهواء، ومنه الجساد للزعفران‏.‏ وقيل جسم ذو تركيب لأن أصله لجمع الشيء واشتداده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ صدقناهم الوعد‏}‏ أي في الوعد‏.‏ ‏{‏فأنجيناهم وَمَن نَّشَاءُ‏}‏ يعني المؤمنين بهم ومن في إبقائه حكمة كمن سيؤمن هو أو أحد من ذريته، ولذلك حميت العرب من عذاب الاستئصال‏.‏ ‏{‏وَأَهْلَكْنَا المسرفين‏}‏ في الكفر والمعاصي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ‏}‏ يا قريش ‏{‏كتابا‏}‏ يعني القرآن‏.‏ ‏{‏فِيهِ ذِكْرُكُمْ‏}‏ صيتكم كقوله ‏{‏وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ‏}‏ أو موعظتكم أو ما تطلبون به حسن الذكر من مكارم الأخلاق‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ فتؤمنون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ‏}‏ وإرادة عن غضب عظيم لأن القصم كسر يبين تلاؤم الأجزاء بخلاف الفصم‏.‏ ‏{‏كَانَتْ ظالمة‏}‏ صفة لأهلها وصفت بها لما أقيمت مقامه‏.‏ ‏{‏وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا‏}‏ بعد إهلاك أهلها‏.‏ ‏{‏قَوْماً ءَاخَرِينَ‏}‏ مكانهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا‏}‏ فلما أدركوا شدة عذابنا إدراك المشاهد المحسوس، والضمير للأهل المحذوف‏.‏ ‏{‏إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ‏}‏ يهربون مسرعين راكضين دوابهم، أو مشبهين بهم من فرط إسراعهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ تَرْكُضُواْ‏}‏ على إرادة القول أي قيل لهم استهزاء لا تركضوا إما بلسان الحال أو المقال، والقائل ملك أو من ثم من المؤمنين‏.‏ ‏{‏وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ‏}‏ من التنعم والتلذذ والإِتراف إبطار النعمة‏.‏ ‏{‏ومساكنكم‏}‏ التي كانت لكم‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ‏}‏ غدا عن أعمالكم أو تعذبون فإن السؤال من مقدمات العذاب، أو تقصدون للسؤال والتشاور في المهام والنوازل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ يَا وَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظالمين‏}‏ لما رأوا العذاب ولم يروا وجه النجاة لذلك لم ينفعهم‏.‏ وقيل إن أهل حضور من قرى اليمن بعث إليهم نبي فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر فوضع السيف فيهم فنادى مناد من السماء يا لثارات الأنبياء فندموا وقالوا ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ‏}‏ فما زالوا يرددون ذلك، وإنما سماه دعوى لأن المولول كأنه يدعو الويل ويقول‏:‏ يا ويل تعال فهذا أوانك، وكل من ‏{‏تِلْكَ‏}‏ و‏{‏دَعْوَاهُمْ‏}‏ يحتمل الاسمية والخبرية‏.‏ ‏{‏حتى جعلناهم حَصِيداً‏}‏ مثل الحصيد وهو النبت المحصود ولذلك لم يجمع‏.‏ ‏{‏خامدين‏}‏ ميتين من خمدت النار وهو مع ‏{‏حَصِيداً‏}‏ منزلة المفعول الثاني كقولك‏:‏ جعلته حلواً حامضاً إذ المعنى‏:‏ وجعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود أو صفة له أو حال من ضميره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 23‏]‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ‏(‏16‏)‏ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ‏(‏17‏)‏ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ‏(‏18‏)‏ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ ‏(‏19‏)‏ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ‏(‏20‏)‏ أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ‏(‏21‏)‏ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏22‏)‏ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السمآء والارض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ‏}‏ وإنما خلقناها مشحونة بضروب البدائع تبصرة للنظار وتذكرة لذوي الاعتبار وتسبباً لما ينتظم به أمور العباد في المعاش والمعاد، فينبغي أن يتسلقوا بها إلى تحصيل الكمال ولا يغتروا بزخارفها فإنها سريعة الزوال‏.‏

‏{‏لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً‏}‏ ما يتلهى به ويلعب‏.‏ ‏{‏لاتخذناه مِن لَّدُنَّا‏}‏ من جهة قدرتنا، أو من عندنا مما يليق بحضرتنا من المجردات لا من الأجسام المرفوعة والأجرام المبسوطة كعادتكم في رفع السقوف وتزويقها وتسوية الفرش وتزيينها، وقيل اللهو الولد بلغة اليمن وقيل الزوجة والمراد به الرد على النصارى ‏{‏إِن كُنَّا فاعلين‏}‏ ذلك ويدل على جواب الجواب المتقدم‏.‏ وقيل ‏{‏إِن‏}‏ نافية والجملة كالنتيجة للشرطية‏.‏

‏{‏بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل‏}‏ إِضراب عن اتخاذ اللهو وتنزيه لذاته عن اللعب أي بل من شأننا أن نغلب الحق الذي من جملته الجد على الباطل الذي من عداده اللهو‏.‏ ‏{‏فَيدمغه‏}‏ فيمحقه، وإنما استعار لذلك القذف وهو الرمي البعيد المستلزم لصلابة المرمى، والدمغ الذي هو كسر الدماغ بحيث يشق غشاؤه المؤدي إلى زهوق الروح تصويره لابطاله ومبالغة فيه، وقرئ ‏{‏فَيَدْمَغُهُ‏}‏ بالنصب كقوله‏:‏

سَأَتْرُكْ مَنْزِلي لَبَنِي تَمِيم *** وَأَلْحَق بِالحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا

ووجه مع بعده الحمل على المعنى والعطف على «الحق»‏.‏ ‏{‏فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ‏}‏ هالك والزهوق ذهاب الروح وذكره لترشيح المجاز‏.‏ ‏{‏وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ‏}‏ مما تصفونه به مما لا يجوز عليه، وهو في موضع الحال وما مصدرية أو موصولة أو موصوفة‏.‏

‏{‏وَلَهُ مَن فِى السموات والارض‏}‏ خلقاً وملكاً‏.‏ ‏{‏وَمَنْ عِندَهُ‏}‏ يعني الملائكة المنزلين منه لكرامتهم عليه منزلة المقربين عند الملوك، وهو معطوف على ‏{‏مَن فِى السموات‏}‏ وأفرده للتعظيم أو لأنه أعم منه من وجه، أو المراد به نوع من الملائكة متعال عن التبوؤ في السماء والأرض أو مبتدأ خبره‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ‏}‏ لا يتعظمون عنها‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ‏}‏ ولا يعيون منها، وإنما جيء بالاستحسار الذي هو أبلغ من الحسور تنبيهاً على أن عبادتهم بثقلها ودوامها حقيقة بأن يستحسر منها ولا يستحسرون‏.‏

‏{‏يُسَبِّحُونَ الليل والنهار‏}‏ ينزهونه ويعظمونه دائماً‏.‏ ‏{‏لاَ يَفْتُرُونَ‏}‏ حال من الواو في ‏{‏يسبحون‏}‏ وهو استئناف أو حال من ضمير قبله‏.‏

‏{‏أَمِ اتخذوا ءَالِهَةً‏}‏ بل اتخذوا والهمزة لإِنكار اتخاذهم‏.‏ ‏{‏مِّنَ الأرض‏}‏ صفة لآلهة أو متعلقة بالفعل على معنى الابتداء، وفائدتها التحقير دون التخصيص‏.‏ ‏{‏هُمْ يُنشِرُونَ‏}‏ الموتى وهم وإن لم يصرحوا به لكن لزم ادعاؤهم لها الإِلهية، فإن من لوازمها الاقتدار على جميع الممكنات والمراد به تجهيلهم والتهكم بهم، وللمبالغة في ذلك زيد الضمير الموهم لاختصاص الانشار بهم‏.‏

‏{‏وَلَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلاَّ الله‏}‏ غير الله، وصف ب ‏{‏إِلاَّ‏}‏ لتعذر الاستثناء لعدم شمول ما قبلها لما بعدها ودلالته على ملازمة الفساد لكون الآلهة فيهما دونه، والمراد ملازمته لكونها مطلقاً أو معه حملاً لها على غير كما استثنى بغير حملاً عليها، ولا يجوز الرفع على البدل لأنه متفرع على الاستثناء ومشروط بأن يكون في كلام غير موجب‏.‏

‏{‏لَفَسَدَتَا‏}‏ لبطلتا لما يكون بينهما من الاختلاف والتمانع، فإنها إن توافقت في المراد تطاردت عليه القدر وإن تخالفت فيه تعاوقت عنه‏.‏ ‏{‏فسبحان الله رَبِّ العرش‏}‏ المحيط بجميع الأجسام الذي هو محل التدابير ومنشأ التقادير‏.‏ ‏{‏عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ من اتخاذ الشريك والصاحبة والولد‏.‏

‏{‏لاَّ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ‏}‏ لعظمته وقوة سلطانه وتفرده بالألوهية والسلطنة الذاتية‏.‏ ‏{‏وَهُمْ يُسْئَلُونَ‏}‏ لأنهم مملوكون مستعبدون والضمير لل ‏{‏ءَالِهَةً‏}‏ أو للعباد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً‏}‏ كرره استعظاماً لكفرهم واستفظاعاً لأمرهم وتبكيتاً وإظهاراً لجهلهم، أو ضماً لإِنكار ما يكون لهم سنداً من النقل إلى إنكار ما يكون لهم دليلاً من العقل على معنى أوجدوا آلهة ينشرون الموتى فاتخذوهم آلهة، لما وجدوا فيهم من خواص الألوهية، أو وجدوا في الكتب الإِلهية الأمر بإشراكهم فاتخذوهم متابعة للأمر، ويعضد ذلك أنه رتب على الأول ما يدل على فساده عقلاً وعلى الثاني ما يدل على فساده نقلاً‏.‏ ‏{‏قُلْ هَاتُواْ برهانكم‏}‏ على ذلك إما من العقل أو من النقل، فإنه لا يصح القول بما لا دليل عليه كيف وقد تطابقت الحجج على بطلانه عقلاً ونقلاً‏.‏ ‏{‏هذا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى‏}‏ من الكتب السماوية فانظروا هل تجدون فيها إلا الأمر بالتوحيد والنهي عن الإِشراك، والتوحيد لما لم يتوقف على صحته بعثة الرسل وإنزال الكتب صح الاستدلال فيه بالنقل و‏{‏مَن مَّعِىَ‏}‏ أمته و‏{‏مَن قَبْلِى‏}‏ الأمم المتقدمة وإضافة ال ‏{‏ذِكْرُ‏}‏ إليهم لأنه عظتهم، وقرئ بالتنوين ولا إعمال وبه وب ‏{‏مِنْ‏}‏ الجارة على أن مع اسم هو ظرف كقبل وبعد وشبههما وبعدمها‏.‏ ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق‏}‏ ولا يميزون بينه وبين الباطل، وقرئ ‏{‏الحق‏}‏ بالرفع على أنه خبر محذوف وسط للتأكيد بين السبب والمسبب‏.‏ ‏{‏فَهُمْ مُّعْرِضُونَ‏}‏ عن التوحيد واتباع الرسول من أجل ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ يُوحَى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون‏}‏ تعميم بعد تخصيص، فإن ‏{‏ذكر من قبلي‏}‏ من حيث إنه خبر لاسم الإِشارة مخصوص بالموجود بين أظهرهم وهو الكتب الثلاثة، وقرأ حفص وحمزة والكسائي ‏{‏نُوحِى إِلَيْهِ‏}‏ بالنون وكسر الحاء والباقون بالياء وفتح الحاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً‏}‏ نزلت في خزاعة حيث قالوا الملائكة بنات الله ‏{‏سبحانه‏}‏ تنزيه له عن ذلك‏.‏ ‏{‏بَلْ عِبَادٌ‏}‏ بل هم عباد من حيث إنهم مخلوقون وليسوا بالأولاد‏.‏ ‏{‏مُّكْرَمُونَ‏}‏ وفيه تنبيه على مدحض القوم، وقرئ بالتشديد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 36‏]‏

‏{‏لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ‏(‏27‏)‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ‏(‏28‏)‏ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏29‏)‏ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏30‏)‏ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏31‏)‏ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ‏(‏32‏)‏ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ‏(‏33‏)‏ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ‏(‏34‏)‏ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ‏(‏35‏)‏ وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول‏}‏ لا يقولون شيئاً حتى يقوله كما هو ديدن العبيد المؤدبين، وأصله لا يسبق قولهم قوله فنسب السبق إليه وإليهم، وجعل القول محله وأداته تنبيهاً على استهجان السبق المعرض به للقائلين على الله ما لم يقله، وأنيبت اللام على الإِضافة اختصاراً وتجافياً عن تكرير الضمير، وقرئ ‏{‏لاَ يَسُبقُونَهُ‏}‏ بالضم من سابقته فسبقته أسبقه‏.‏ ‏{‏وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ‏}‏ لا يعملون قط ما لم يأمرهم به‏.‏

‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ لا تخفى عليه خافية مما قدموا وأخروا، وهو كالعلة لما قبله والتمهيد لما بعده فإنهم لإحاطتهم بذلك يضبطون أنفسهم ويراقبون أحوالهم‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى‏}‏ أن يشفع له مهابة منه‏.‏ ‏{‏وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ‏}‏ عظمته ومهابته‏.‏ ‏{‏مُشْفِقُونَ‏}‏ مرتعدون، وأصل الخشية خوف مع تعظيم ولذلك خص بها العلماء‏.‏ والإِشفاق خوف مع اعتناء فإن عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر وإن عدي بعلى فبالعكس‏.‏

‏{‏وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ‏}‏ من الملائكة أو من الخلائق‏.‏ ‏{‏إِنّى إله مّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ‏}‏ يريد به نفي النبوة وادعاء ذلك عن الملائكة وتهديد المشركين بتهديد مدعي الربوبية‏.‏ ‏{‏كذلك نَجْزِى الظالمين‏}‏ من ظلم بالإِشراك وادعاء الربوبية‏.‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَرَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ أو لم يعلموا، وقرأ ابن كثير بغير واو‏.‏ ‏{‏أَنَّ السموات والارض كَانَتَا رَتْقاً‏}‏ ذات رتق أو مرتوقتين، وهو الضم والالتحام أي كانتا شيئاً واحداً وحقيقة متحدة‏.‏ ‏{‏ففتقناهما‏}‏ بالتنويع والتمييز، أو كانت السموات واحدة ففتقت بالتحريكات المختلفة حتى صارت أفلاكاً، وكانت الأرضون واحدة فجعلت باختلاف كيفياتها وأحوالها طبقات أو أقاليم‏.‏ وقيل ‏{‏كَانَتَا‏}‏ بحيث لا فرجة بينهما ففرج‏.‏ وقيل ‏{‏كَانَتَا رَتْقاً‏}‏ لا تمطر ولا تنبت ففتقناهما بالمطر والنبات، فيكون المراد ب ‏{‏السموات‏}‏ سماء الدنيا وجمعها باعتبار الآفاق أو ‏{‏السموات‏}‏ بأسرها على أن لها مدخلاً ما في الأمطار، والكفرة وإن لم يعلموا ذلك فهم متمكنون من العلم به نظراً فإن الفتق عارض مفتقر إلى مؤثر واجب وابتداء أو بوسط، أو استفساراً من العلماء ومطالعة للكتب، وإنما قال ‏{‏كَانَتَا‏}‏ ولم يقل كن لأن المراد جماعة السموات وجماعة الأرض‏.‏ وقرئ ‏{‏رَتْقاً‏}‏ بالفتح على تقدير شيئاً رتقاً أي مرتوقاً كالرفض بمعنى المرفوض‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَئ حَىٍّ‏}‏ وخلقنا من الماء كل حيوان كقوله تعالى ‏{‏الله خالق كُلّ دَابَّةٍ مّن مَّاء‏}‏ وذلك لأنه من أعظم مواده أو لفرط احتياجه إليه وانتفاعه به بعينه، أو صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا يحيا دونه‏.‏ وقرئ «حياً» على أنه صفة ‏{‏كُلَّ‏}‏ أو مفعول ثان، والظرف لغو والشيء مخصوص بالحيوان‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ مع ظهور الآيات‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا فِى الأرض رَوَاسِىَ‏}‏ ثابتات من رسا الشيء إذا ثبت‏.‏ ‏{‏أَن تَمِيدَ بِهِمْ‏}‏ كراهة أن تميل بهم وتضطرب، وقيل لأن لا تميد فحذف لا لأمن الإِلباس‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا فِيهَا‏}‏ في الأرض أو الرواسي‏.‏ ‏{‏فِجَاجاً سُبُلاً‏}‏ مسالك واسعة وإنما قدم فجاجاً وهو وصف له ليصير حالاً فيدل على أنه حين خلقها خلقها كذلك، أو ليبدل منها ‏{‏سُبُلاً‏}‏ فيدل ضمناً على أنه خلقها ووسعها للسابلة مع ما يكون فيه من التوكيد‏.‏ ‏{‏لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ‏}‏ إلى مصالحهم‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً‏}‏ عن الوقوع بقدرته أو الفساد والإِخلال إلى الوقت المعلوم بمشيئته، أو استراق السمع بالشهب‏.‏ ‏{‏وَهُمْ عَنْ ءاياتها‏}‏ عن أحوالها الدالة على وجود الصانع ووحدته وكمال قدرته وتناهي حكمته التي يحس ببعضها ويبحث عن بعضها في علمي الطبيعة والهيئة‏.‏ ‏{‏مُّعْرِضُونَ‏}‏ غير متفكرين‏.‏

‏{‏وَهُوَ الذى خَلَقَ اليل والنهار والشمس والقمر‏}‏ بيان لبعض تلك الآيات‏.‏ ‏{‏كُلٌّ فِى فَلَكٍ‏}‏ أي كل واحد منهما، والتنوين بدل من المضاف إليه والمراد بالفلك الجنس كقولهم‏:‏ كساهم الأمير حلة‏.‏ ‏{‏يَسْبَحُونَ‏}‏ يسرعون على سطح الفلك إسراع السابح على سطح الماء، وهو خبر ‏{‏كُلٌّ‏}‏ والجملة حال من ‏{‏الشمس والقمر‏}‏، وجاز إنفرادهما بها لعدم اللبس والضمير لهما، وإنما جمع باعتبار المطالع وجعل الضمير واو العقلاء لأن السباحة فعلهم‏.‏

‏{‏وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الخالدون‏}‏ نزلت حين قالوا نتربص به ريب المنون وفي معناه قوله‏:‏

فَقُلْ لِلشَّامِتِينَ بِنَا أَفِيقُوا *** سَيَلْقَى الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِينَا

والفاء لتعلق الشرط بما قبله والهمزة لإِنكاره بعد ما تقرر ذلك‏.‏

‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت‏}‏ ذائقة مرارة مفارقتها جسدها، وهو برهان على ما أنكروه‏.‏ ‏{‏وَنَبْلُوكُم‏}‏ ونعاملكم معاملة المختبر‏.‏ ‏{‏بالشر والخير‏}‏ بالبلايا والنعم‏.‏ ‏{‏فِتْنَةً‏}‏ ابتلاء مصدر من غير لفظه‏.‏ ‏{‏وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ‏}‏ فنجازيكم حسب ما يوجد منكم من الصبر والشكر، وفيه إيماء بأن المقصود من هذه الحياة والابتلاء والتعريض للثواب والعقاب تقريراً لما سبق‏.‏

‏{‏وَإِذَا رَآكَ الذين كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ‏}‏ ما يتخذونك‏.‏ ‏{‏إِلاَّ هُزُواً‏}‏ إلا مهزوءاً به ويقولون‏:‏ ‏{‏أهذا الذى يَذْكُرُ ءَالِهَتَكُمْ‏}‏ أي بسوء، وإنما أطلقه لدلالة الحال فإن ذكر العدو لا يكون إلا بسوء‏.‏ ‏{‏وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن‏}‏ بالتوحيد أو بإرشاد الخلق ببعث الرسل وإنزال الكتب رحمة عليهم أو بالقرآن‏.‏ ‏{‏هُمْ كافرون‏}‏ منكرون فهم أحق أن يهزأ بهم، وتكرير الضمير للتأكيد والتخصيص ولحيلولة الصلة بينه وبين الخبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ‏}‏ كأنه خلق منه لفرط استعجاله وقلة ثباته كقولك‏:‏ خلق زيد من الكرم، جعل ما طبع عليه بمنزلة المطبوع وهو منه مبالغة في لزومه له ولذلك قيل‏:‏ إِنه على القلب ومن عجلته مبادرته إلى الكفر واستعجال الوعيد‏.‏ روي أنها نزلت في النضر بن الحارث حين استعجل العذاب‏.‏ ‏{‏سَأُوْرِيكُمْ ءاياتي‏}‏ نقماتي في الدنيا كوقعة بدر وفي الآخرة عذاب النار‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ‏}‏ بالإِتيان بها، والنهي عما جبلت عليه نفوسهم ليقعدوها عن مرادها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد‏}‏ وقت وعد العذاب أو القيامة‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ يعنون النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضي الله عنهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ‏}‏ محذوف الجواب و‏{‏حِين‏}‏ مفعول ‏{‏يَعْلَمُ‏}‏ أي‏:‏ لو يعلمون الوقت الذي يستعجلون منه بقولهم ‏{‏متى هذا الوعد‏}‏ وهو حين تحيط بهم النار من كل جانب بحيث لا يقدرون على دفعها ولا يجدون ناصراً يمنعها لما استعجلوا، ويجوز أن يترك مفعول ‏{‏يَعْلَمُ‏}‏ ويضمر لحين فعل بمعنى‏:‏ لو كان لهم علم لما استعجلوا يعلمون بطلان ما هم عليه حين لا يكفون، وإنما وضع الظاهر فيه موضع الضمير للدلالة على ما أوجب لهم ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ تَأْتِيهِم‏}‏ العدة أو النار أو الساعة‏.‏ ‏{‏بَغْتَةً‏}‏ فجأة مصدر أو حال‏.‏ وقرئ بفتح الغين‏.‏ ‏{‏فَتَبْهَتُهُمْ‏}‏ فنغلبهم أو تحيرهم‏.‏ وقرئ الفعلان بالياء والضمير ل ‏{‏الوعد‏}‏ أو ال ‏{‏حِين‏}‏ وكذا في قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا‏}‏ لأن الوعد بمعنى النار أو العدة والحين بمعنى الساعة، ويجوز أن يكون ل ‏{‏النار‏}‏ أو لل ‏{‏بَغْتَةً‏}‏‏.‏ ‏{‏وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ‏}‏ يمهلون وفيه تذكير بإمهالهم في الدنيا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ‏}‏ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ‏}‏ وعد له بأن ما يفعلونه به يحيق بهم كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء ما فعلوا يعني جزاءه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد للمستهزئين‏.‏ ‏{‏مَن يَكْلَؤُكُمْ‏}‏ يحفظكم‏.‏ ‏{‏باليل وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحمَنِ‏}‏ من بأسه إن أراد بكم، وفي لفظ ‏{‏الرحمن‏}‏ تنبيه على أن لا كالئ غير رحمته العامة وأن اندفاعه بمهلته ‏{‏بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ‏}‏ لا يخطرونه ببالهم فضلاً أن يخافوا بأسه حتى إذا كلؤا منه عرفوا الكالي‏.‏ وصلحوا للسؤال عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ ءَالِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا‏}‏ بل ألهم آلهة تمنعهم من العذاب تتجاوز منعنا، أو من عذاب يكون من عندنا والإِضرابان عن الأمر بالسؤال على الترتيب، فإنه عن المعرض الغافل عن الشيء بعيد وعن المعتقد لنقيضه أبعد‏.‏ ‏{‏لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ‏}‏ استئناف بإبطال ما اعتقدوه فإن من لا يقدر على نصر نفسه ولا يصحبه نصر من الله فكيف ينصر غيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلآءِ وَءَابَاءَهُمْ حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر‏}‏ إضراب عما توهموا ببيان ما هو الداعي إلى حفظهم وهو الاستدراج والتمتع بما قدر لهم من الأعمار، أو عن الدلالة على بطلانه ببيان ما أوهمهم ذلك، وهو أنه تعالى متعهم بالحياة الدنيا وأمهلهم حتى طالت أعمارهم فحسبوا أن لا يزالوا كذلك وأنه بسبب ما هم عليه ولذلك عقبه بما يدل على أنه أمل كاذب فقال‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الأرض‏}‏ أرض الكفرة‏.‏ ‏{‏نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا‏}‏ بتسليط المسلمين عليها، وهو تصوير لما يجريه الله تعالى على أيدي المسلمين‏.‏ ‏{‏أَفَهُمُ الغالبون‏}‏ رسول الله والمؤمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 50‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ ‏(‏45‏)‏ وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏46‏)‏ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ‏(‏47‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏48‏)‏ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ‏(‏49‏)‏ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بالوحى‏}‏ بما أوحي إلي‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعاء‏}‏ وقرأ ابن عامر ولا تسمع الصم على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقرئ بالياء على أن فيه ضميره، وإنما سماهم ‏{‏الصم‏}‏ ووضعه موضع ضميرهم للدلالة على تصامهم وعدم انتفاعهم بما يسمعون‏.‏ ‏{‏إِذَا مَا يُنذَرُونَ‏}‏ منصوب ب ‏{‏يَسْمَعُ‏}‏ أو ب ‏{‏الدعاء‏}‏ والتقييد به لأن الكلام في الإِنذار أو للمبالغة في تصامهم وتجاسرهم‏.‏

‏{‏وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ‏}‏ أدنى شيء، وفيه مبالغات ذكر المس وما فيه النفحة من معنى القلة، فإن أصل النفح هبوب رائحة الشيء والبناء الدال على المرة‏.‏ ‏{‏مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ‏}‏ من الذي ينذرون به‏.‏ ‏{‏لَيَقُولُنَّ ياويلنا إِنَّا كُنَّا ظالمين‏}‏ لدعوا على أنفسهم بالويل واعترفوا عليها بالظلم‏.‏

‏{‏وَنَضَعُ الموازين القسط‏}‏ العدل توزن بها صحائف الأعمال‏.‏ وقيل وضع الموازين تمثيل لإِرصاد الحساب السوي والجزاء على حسب الأعمال بالعدل، وإفراد ‏{‏القسط‏}‏ لأنه مصدر وصف به للمبالغة‏.‏ ‏{‏لِيَوْمِ القيامة‏}‏ لجزاء يوم القيامة أو لأهله، أو فيه كقولك‏:‏ جئت لخمس خلون من الشهر‏.‏ ‏{‏فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً‏}‏ من حقها أو من الظلم‏.‏ ‏{‏وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ‏}‏ أي وإن كان العمل أو الظلم مقدار حبة، ورفع نافع ‏{‏مِثْقَالَ‏}‏ على ‏{‏كَانَ‏}‏ التامة‏.‏ ‏{‏أَتَيْنَا بِهَا‏}‏ أحضرناها، وقرئ ‏{‏ءَاتَيْنَا‏}‏ بمعنى جازينا بها من الإِيتاء فإنه قريب من أعطينا، أو من المؤاتاة فإنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء وأثبنا من الثواب وجئنا، والضمير للمثقال وتأنيثه لإِضافته إلى ال ‏{‏حَبَّةٍ‏}‏‏.‏ ‏{‏وكفى بِنَا حاسبين‏}‏ إذ لا مزيدة على علمنا وعدلنا‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ أي الكتاب الجامع لكونه فارقاً بين الحق والباطل، ‏{‏وَضِيَاء‏}‏ يستضاء به في ظلمات الحيرة والجهالة، ‏{‏وَذِكْراً‏}‏ يتعظ به المتقون أو ذكر ما يحتاجون إليه من الشرائع‏.‏ وقيل ‏{‏الفرقان‏}‏ النصر، وقيل فلق البحر وقرئ ‏{‏ضِيَاء‏}‏ بغير واو على أنه حال من ‏{‏الفرقان‏}‏‏.‏

‏{‏الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم‏}‏ صفة ‏{‏لّلْمُتَّقِينَ‏}‏ أو مدح لهم منصوب أو مرفوع‏.‏ ‏{‏بالغيب‏}‏ حال من الفاعل أو المفعول‏.‏ ‏{‏وَهُمْ مِّنَ الساعة مُشْفِقُونَ‏}‏ خائفون وفي تصدير الضمير وبناء الحكم عليه مبالغة وتعريض‏.‏

‏{‏وهذا ذِكْرٌ‏}‏ يعني القرآن‏.‏ ‏{‏مُّبَارَكٌ‏}‏ كثير خيره‏.‏ ‏{‏أنزلناه‏}‏ على محمد عليه الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ‏}‏ استفهام توبيخ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ‏}‏ الاهتداء لوجوه الصلاح وإضافته ليدل على أنه رشد مثله وأن له شأناً‏.‏ وقرئ ‏{‏رشده‏}‏ وهو لغة‏.‏ ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ موسى وهرون أو محمد عليه الصلاة والسلام‏.‏ وقيل من قبل استنبائه أو بلوغه حيث قال‏:‏ ‏{‏إِنّى وَجَّهْتُ‏}‏ ‏{‏وَكُنَّا بِهِ عالمين‏}‏ علمنا أنه أهل لما آتيناه، أو جامع لمحاسن الأوصاف ومكارم الخصال وفيه إشارة إلى أن فعله سبحانه وتعالى باختيار وحكمة وأنه عالم بالجزئيات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ‏}‏ متعلق ب ‏{‏ءَاتَيْنَا‏}‏ أو ب ‏{‏رشده‏}‏ أو بمحذوف‏:‏ أي اذكر من أوقات رشده وقت قوله‏:‏ ‏{‏مَا هذه التماثيل التى أَنتُمْ لَهَا عاكفون‏}‏ تحقير لشأنها وتوبيخ على إجلالها، فإن التمثال صورة لا روح فيها لا يضر ولا ينفع، واللام للاختصاص لا للتعدية فإن تعدية العكوف بعلى‏.‏ والمعنى أنتم فاعلون العكوف لها ويجوز أن يؤول بعلى أو يضمن العكوف معنى العبادة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا لَهَا عابدين‏}‏ فقلدناهم وهو جواب ما لزم الاستفهام من السؤال عما اقتضى عبادتها وحملهم عليها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ منخرطين في سلك ضلال لا يخفى على عاقل لعدم استناد الفريقين إلى دليل، والتقليد إن جاز فإنما يجوز لمن علم في الجملة أنه على حق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين‏}‏ كأنهم لاستبعادهم تضليله إياهم ظنوا أن ما قاله إنما قاله على وجه الملاعبة، فقالوا أبجد تقوله أم تلعب به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السموات والارض الذى فطَرَهُنَّ‏}‏ إضراب عن كونه لاعباً بإقامة البرهان على ما ادعاه وهن للسموات والأرض أو للتماثيل، وهو أدخل في تضليلهم وإلزام الحجة عليهم‏.‏ ‏{‏وَأَنَاْ على ذلكم‏}‏ أي المذكور من التوحيد‏.‏ ‏{‏مِّنَ الشاهدين‏}‏ من المتحققين له والمبرهنين عليه، فإن الشاهد من تحقق الشيء وحققه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏وتالله‏}‏ وقرئ بالباء وهي الأصل والتاء بدل من الواو المبدلة منها وفيها تعجب‏.‏ ‏{‏لأَكِيدَنَّ أصنامكم‏}‏ لأجتهدن في كسرها، ولفظ الكيد وما في التاء من التعجب لصعوبة الأمر وتوقفه على نوع من الحيل‏.‏ ‏{‏بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ‏}‏ عنها‏.‏ ‏{‏مُّدْبِرِينَ‏}‏ إلى عيدكم ولعله قال ذلك سراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً‏}‏ قطاعاً فعال بمعنى مفعول كالحطام من الجذ وهو القطع‏.‏ وقرأ الكسائي بالكسر وهو لغة، أو جمع جذيذ كخفاف وخفيف‏.‏ وقرئ بالفتح و‏{‏جذذاً‏}‏ جمع جذيذ وجذذاً جمع جذة‏.‏ ‏{‏إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ‏}‏ للأصنام كسر غيره واستبقاه وجعل الفأس على عنقه‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ‏}‏ لأنه غلب على ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه لتفرده واشتهاره بعداوة آلهتهم فيحاجهم بقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ‏}‏ فيحجهم، أو أنهم يرجعون إلى الكبير فيسألونه عن كاسرها إذ من شأن المعبود أن يرجع إليه في حل العقد فيبكتهم بذلك، أو إلى الله أي ‏{‏يَرْجِعُونَ‏}‏ إلى توحيده عند تحققهم عجز آلهتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ حين رجعوا‏.‏ ‏{‏مَن فَعَلَ هذا بِئَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين‏}‏ بجرأته على الآلهة الحقيقة بالإِعظام، أو بإفراطه في حطمها أو بتوريط نفسه للهلاك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ‏}‏ يعيبهم فلعله فعله ويذكر ثاني مفعولي سمع، أو صفة ل ‏{‏فَتًى‏}‏ مصححة لأن يتعلق به السمع وهو أبلغ في نسبة الذكر إليه‏.‏ ‏{‏يُقَالُ لَهُ إبراهيم‏}‏ خبر محذوف أي هو إبراهيم، ويجوز أن يرفع بالفعل لأن المراد به الاسم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس‏}‏ بمرأى منهم بحيث تتمكن صورته في أعينهم تمكن الراكب على المركوب‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ‏}‏ بفعله أو قوله أو يحضرون عقوبتنا له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ ءَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنَا يَآ إِبْرَاهِيمُ‏}‏ حين أحضروه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْئَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ‏}‏ أسند الفعل إليه تجوزاً لأن غيظه لما رأى من زيادة تعظيمهم له تسبب لمباشرته إياه، أو تقريراً لنفسه مع الاستهزاء والتبكيت على أسلوب تعريضي كما لو قال لك من لا يحسن الخط فيما كتبته بخط رشيق‏:‏ أأنت كتبت لهذا فقلت بل كتبته أنت، أو حكاية لما يلزم من مذهبهم جوازه، وقيل إنه في المعنى متعلق بقوله ‏{‏إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ‏}‏ وما بينهما اعتراض أو إلى ضمير ‏{‏فَتًى‏}‏ أو ‏{‏إبراهيم‏}‏، وقوله ‏{‏كَبِيرُهُمْ هذا‏}‏ مبتدأ وخبر ولذلك وقف على فعله‏.‏ وما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال «لإِبراهيم ثلاث كذبات» تسمية للمعاريض كذباً لما شابهت صورتها صورته‏.‏